...

كاب إيزيس

سبتمبر 15, 2025
9a44ae24c89352996058d4b56f37097b

الكاتبة: منال ربيعي 

الزيّ التقليدي في مصر ليس مجرد أقمشة وألوان، بل هو مرآةٌ لروح حضارة ممتدّة لآلاف السنين. فمن الكتان الأبيض الذي كان يلفّ أجساد الفراعنة إلى الجلابيب والعباءات المطرزة في صعيد مصر، ظلّ اللباس المصري شاهدًا على تفاعل المجتمع مع بيئته ونظرته إلى الجمال والهوية.

لقد حملت الملابس في مصر القديمة رموزًا واضحة للمكانة الاجتماعية والدينية؛ فالكهنة كانوا يرتدون أزياء مخصوصة، والنساء يعبّرن بألوانهنّ ونقوشهنّ عن طبقات المجتمع وطقوس الحياة. وحتى في العصر الإسلامي، ظلّ الزيّ المصري مزيجًا بين البساطة والوقار، يجمع بين التراث المحلي والتأثيرات القادمة من الشام والمغرب والعثمانيين.

لكنّ هذا الإرث بدأ يتراجع مع تغلغل الموضات السريعة والعولمة، فغابت عن أعين الشباب رمزية الجلابية، وبهتت ألوان العباءات المطرزة، وانكمشت الصناعات اليدوية التي كانت تصنعها نساء القرى بحبّ واعتزاز.

إلا أنّ العقدين الأخيرين شهدا حراكًا لافتًا من مصممين مصريين وعالميين سعوا إلى إعادة قراءة النقوش المرسومة على جدران المعابد والقباب وتحويلها إلى تصاميم معاصرة تحمل هوية واضحة. فأصبحنا نرى في مهرجانات الموضة العالمية قطعًا مستوحاة من “كاب إيزيس” الذي يذكّر بجلال الملكات المصريات، وقد تصدّر هذا الكاب أغلب عروض الأزياء كرمز للقوة والأناقة. كما عاد فنّ “التليّ” الأسيوطي ليأخذ مكانه في المشهد من جديد، حيث دمجه المصممون في فساتين وسراويل وقطع يومية، فصار حرفة تقليدية تتحول إلى عنصر حداثي يربط الماضي بالحاضر.

إحياء هذا التراث ليس عودة إلى الماضي بقدر ما هو استعادة للهوية في ثوب عصري؛ يمكن للمصممين أن يبتكروا أزياءً حديثة تستلهم خطوط الجلابية والطرحة والنقوش النوبية والسيناوية، فتغدو الملابس اليومية قطعة من الذاكرة، وتصبح الأسواق المصرية من جديد مصدرًا للفخر لا مجرد منافذ لموضات مستوردة.

إنّ سؤال هوية حيّة أم تراث منسي؟يضعنا أمام مسؤولية جماعية: إما أن نترك الزيّ التقليدي يتحوّل إلى صورة في متحف، أو نمنحه حياة جديدة بأيدي أبنائه، ليبقى شاهدًا على أنّ مصر ليست حضارة حجر فقط، بل حضارة قماش وروح وهوية.
وليس الزي وحده ما يحتاج إلى بعثٍ جديد، بل حتى الزينة والحُلي الذهبية التي كانت في يوم ما لغة المصري في التعبير عن ذاته وروحه. فالأساور والصدريات والتيجان لم تكن مجرد مظاهر ترف، بل رموزًا للخصب والقوة والحماية، ارتبطت بالروح أكثر من الجسد. إنّ عودة هذه الزينة إلى حياتنا اليوم ليست مجرد “شكل” أو موضة، بل عودة لهوية وطنية نابعة من عمق الروح المصرية؛ هوية تنبض بالكرامة والجمال والقداسة، تجعل كل قطعة من حُليّنا وأزيائنا امتدادًا لتاريخنا وحياتنا اليومية لا صورةً معلّقة في متحف. هكذا فقط نضمن أن يبقى تراثنا حيًّا، متجدّدًا، ومعاصرًا، وأن تتحوّل مصر من جديد إلى مصدر للإلهام في الذوق والروح معًا.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *