...
Img 20250915 wa0019

كتب: أحمد حمزة

 

يقولون إن العالم صار قرية صغيرة. عبارة أنيقة تثير في نفسك الدفء… حتى تكتشف أن هذه القرية الصغيرة مزدحمة جدًا، وكل الجيران يتحدثون في وقت واحد، ويضعون موسيقاهم في أذنك، ويحاولون إقناعك بأن طريقتهم في الأكل والنوم والابتسام هي الأفضل على الإطلاق. عندها تدرك أن المسألة ليست بهذا الجمال.

ويطلقون على هذا مصطلح “العولمة” فالعولمة هي تلك اليد الخفية التي تفتح نافذتك على اتساعها، وتسمح للريح أن تحمل إليك روائح لم تشمها من قبل… وأحيانًا روائح لا ترغب أبدًا في أن تشمها. هي فرصة لأن تتعلم، وتعرف، وتقترب من الآخر، لكنها في الوقت ذاته قادرة على أن تفتت ملامحك قطعة قطعة، حتى تنظر في المرآة يوماً فلا تعرف نفسك.

ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا يحدث لهويتنا، تلك التي تراكمت عبر قرون من اللغة والعادات والتاريخ، حين تصطدم بتيارات العولمة الجارفة؟ وأين يقف الفكر في هذه المعادلة الصعبة؟

وهل فعلا تسير هذه العولمة في اتجاه واحد، منهم إلينا كما قال جلال أمين أم تسير في الاتجاهين ؟

أولًا: العولمة… الوجه المضيء والظلام الممتد

العولمة ليست شرًا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، هي مثل البحر: فيه اللؤلؤ وفيه الغرق. من جهة، فتحت العولمة أبوابًا واسعة للمعرفة والتواصل، وجعلت العالم ساحة واحدة للأفكار والمشاريع والفرص. لم يعد الطالب العربي بحاجة إلى السفر ليتعلم أحدث ما في الطب أو الهندسة، ولم يعد المبدع بحاجة إلى ناشر محلي ليعرض عمله؛ يكفي أن يضعه على منصة عالمية تصل إلى ملايين القراء.

لكن، ومن جهة أخرى، حملت العولمة معها ثقافات وأنماط حياة قد تتعارض أحيانًا مع هويتنا أو تذيبها. صارت اللغات الأجنبية تتسلل إلى حديثنا اليومي حتى فقدت الكلمات العربية دفئها في أذهان البعض. وأصبحت بعض العادات والتقاليد التي كانت تمثل رموزًا أصيلة، غريبة على الأجيال الجديدة التي تستهلك ما تراه على الشاشات أكثر مما تعيشه في الواقع.

ثانيًا: الهوية… حصننا الأخير

الهوية ليست فكرة نظرية ولا شعارًا نرفعه في المناسبات الوطنية، وليست أيضا بطاقة تعريف، بل هي مزيج معقد من لغة وتاريخ وموسيقى وأكلات وذكريات مشتركة… هي ما يجعلك تشعر بأنك تنتمي لمكان ما، حتى لو كنت على بعد آلاف الكيلومترات منه. وحتى طريقة الضحك والنكتة التي لا يفهمها إلا أبناء بيئتك.

المشكلة أن العولمة لا تعترف بالحدود؛ فهي كالسيل: إن لم تكن ثابت الجذور، اقتلعتك معها.

وفي زمن العولمة، الهوية تتعرض لاختبار يومي. فإما أن تبقى حية بالتجديد والحفاظ، وإما أن تذبل تحت ضغط التقليد الأعمى. وما يزيد الأمر تعقيدًا أن الأجيال الجديدة تعيش في فضاء مفتوح بلا حدود، فتتعرف على مئات الرموز العالمية قبل أن تحفظ أسماء قادة أو شعراء من تاريخها.

أكتب المقال هذا وأنا أتحدث بعربية ركيكة يخلطها كثير من الإنجليزية والفرنسية المتعثرة، وأدرك تماما أن هذا المزيج من الألسنة في حديثي أول مسمار في نعش الهوية.

ولا تستنتج من كلامي أن الهوية القوية هي التي تنغلق على نفسها، بل التي تتذكر جذورها مهما ارتفعت أغصانها.

ثالثًا: الفكر… ميزان الذهب في زمن الفوضى

هنا يأتي دور الفكر. والفكر – إن أردنا تعريفه ببساطة – هو القدرة على أن ترى الأشياء كما هي، لا كما يريد الآخرون أن تراها. الفكر هو أن تسأل: لماذا؟ وكيف؟ وماذا لو…؟ هو ذلك الصوت الذي يقول لك: “انتبه، هذه الفكرة لا تناسبك”، أو “هذه التجربة تستحق أن تتعلم منها”.

فالعولمة تمنحك كل شيء، لكن الفكر هو الذي يقرر ما تحتفظ به وما تتجاهله. هناك من يبتلع كل ما يأتيه من الخارج دون أن يمضغه، وهناك من يرفض كل شيء لمجرد أنه ليس من “أرضه”. كلاهما على خطأ. الحكيم هو من يختار، ويضيف، ويصنع مزيجًا جديدًا لا يذيب أصله ولا يرفض التطور.

وفي مواجهة العولمة، لا يكفي أن نرفع شعار “الحفاظ على الهوية”، ولا أن ننغلق على أنفسنا في خوف دائم من الآخر. وهنا يظهر بوضوح دور الفكر كما سبق وعرفناه باعتباره القدرة على الاختيار الواعي. فالفكر يساعدك على أن تدرك أن العولمة ليست كتلة واحدة، بل مزيج متنوع من الأفكار والتجارب، منها ما يُثريك ومنها ما يستهلكك.

الفكر الواعي لا يرفض الجديد لمجرد أنه غريب، ولا يقبل كل وافد بدعوى الانفتاح. هو ببساطة كالمصفاة التي تسمح بمرور ما يضيف إلى هويتك، وتحجز ما يهددها. وهو في الوقت نفسه يدفع الهوية إلى التطور وعدم الجمود، لأن الهوية الجامدة تموت ببطء، بينما الهوية الحية تتفاعل وتتكيف.

وأخبرنا رسولنا الكريم ﷺ عن مشكلتنا مع العولمة في حديث “لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه”

في الحديث تنبؤ بتشربنا كل ما يُقدم لنا دون فلترة أو مصفاة، دون أن يكون للفكر دور.

رابعًا: بين الفكر والهوية

الفكر والهوية ليسا خصمين، بل هما حليفان. الفكر يمنح الهوية القدرة على الحركة ومواجهة التحديات، بينما تمنح الهوية الفكر عمقًا ومعنى. فالعلاقة بين الفكر والهوية علاقة شد وجذب. الهوية تحتاج إلى فكر يحميها من الجمود، والفكر يحتاج إلى هوية تمنحه جذورًا ومعنى. تخيل الفكر بلا هوية… سيكون مثل طائر بلا عش، يحلق كثيرًا لكنه لا يعرف أين يعود. وتخيل الهوية بلا فكر… ستتحول إلى حجر، صلب لكنه عاجز عن الحركة.

والعولمة، في هذا السياق، تمثل التحدي الأكبر للعلاقة بينهما. فهي تضع أمام الفكر كمًّا هائلًا من الخيارات، وتطلب منه أن يحدد ما يتوافق مع هوية الفرد والمجتمع. وفي كثير من الأحيان، لا تكون المشكلة في قوة العولمة، بل في ضعف الفكر الذي يختار دون وعي أو نقد. وهذا الاختيار صار أصعب. حيث الإغراء الدائم بأن تقلد ما تراه لامعًا، وهناك خوف دائم أيضا من أن تضيع إذا فعلت. لكنك إن امتلكت فكرًا يقظًا، ستدرك أن هويتك يمكن أن تتغير وتتطور، دون أن تفقد جوهرها.

سادسًا: ما العمل؟

المعادلة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى وعي جماعي.

علينا أن نُعلّم أبناءنا لغات العالم، لكن دون أن نفرط في لغتنا الأم.

أن نفتح مدارسنا وجامعاتنا لأحدث المعارف، لكن مع ربطها بتاريخنا وقيمنا.

أن نستهلك منتجات العالم، لكن نشجع صناعاتنا وفنوننا المحلية.

والأهم أن نزرع في الأجيال القادمة فكرًا نقديًا، يجعلهم قادرين على الاختيار بأنفسهم، بدل أن يكونوا مجرد متلقين لما تفرضه الشاشات والإعلانات.

صفوة القول

العولمة قدر هذا العصر، والهوية رصيدنا الذي لا يقدّر بثمن، وهويتنا كمصريين على سبيل المثال نجدها حاضرة في عبارة نجيب محفوظ

“أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا: أولهما عمرها سبعة آلاف سنة، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة.”

أما الفكر هو الأداة التي تضمن بقاء هذا الرصيد وتنميه. لسنا مطالبين بأن نكون جزرًا معزولة في محيط العالم، ولا أن نذوب تمامًا فيه حتى نفقد ملامحنا. المطلوب هو أن نكون جسورًا متينة: جذورها ثابتة في أرضنا، وامتدادها مفتوح نحو العالم.

وحين ننجح في هذا، سنكتشف أن العولمة ليست خطرًا، بل فرصة لأن نرى أنفسنا في مرآة أكبر… فرصة لأن نأخذ من الآخر ما يضيف إلينا، وأن نقدم له نحن أيضًا ما يستحق أن يتعلمه. أن نسيّر العولمة في الاتجاهين منا إليهم والعكس. وهنا فقط، يصبح الفكر والهوية شريكين في رحلة لا تنتهي، مهما تغيّرت الرياح واتسعت البحار، ستدرك أن العالم كله يمكن أن يطرق بابك، لكنك وحدك من يقرر من يدخل ومن يظل بالخارج. هذا القرار هو ما يحدد من أنت… اليوم، وغدًا، وحتى آخر العمر.

 

 

 

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *