الكاتب المبدع : حسين العلي
في عالمٍ يموج بالصراعات والماديات، يبدو الخيال للكثيرين ترفاً فكرياً أو هروباً من مواجهة الواقع. لكن للحقيقةِ وجهٌ آخر، فالشاعر والأديب لا ينسج خياله من فراغ، بل ينحت من صخور الواقع تماثيلَ تحملُ روح الحقيقة في ثوبٍ من الجمال. إنها معادلة إبداعية معقدة، حيثُ لا ينفصل الخيال عن المنطق، ولا ينفك الجمال عن الحقيقة. فكيف يصوغ المبدعُ خياله ليكون جسراً إلى الواقع، لا حاجزاً عنه؟
الخيال:
اللغة السرية للواقع ليس الخيالُ هروباً من الواقع، بل هو وسيلةٌ أعمق لفهمه. حين يكتب الشاعر قصيدته، أو يرسم الفنان لوحته، فإنه لا يبتعد عن الحقيقة، بل يغوص في أعماقها ليستخرج جوهرها الخالص. الخيال هنا هو العدسة المكبرة التي تكشف التفاصيل المخفية، والمنظور الجديد الذي يضيء الزوايا المظلمة. الأديب لا يكذب حين يبالغ، بل يزيد الواقع وضوحاً حين يضيف إليه ألواناً من خياله، كالطبيب الذي يضيف الصبغة إلى الخلايا ليرى ما لا تراه العين المجردة.
الصور أعمقها:
لماذا يختار الأديب أغرب الألفاظ وأكثرها دهشة؟لأن اللغة المألوفة أصبحت باليةً من كثرة الاستخدام، كالنقود التي تتهالَكُ من التداول. الكلمة الغريبة توقظ الذهن من سباته، والصورة الجديدة تفتح الأبواب المغلقة في النفس. هذا الانزياح اللغوي ليس تعقيداً بلا داعٍ، بل هو محاولةٌ لاستعادة براءة النظر إلى العالم. إنه نداءٌ للقارئ: “انتبه! هناك شيءٌ يستحق النظر”.
الواقعية الخفية في قلب الخيال:
أعظم الخيال هو ذلك الذي يلامس الواقع دون أن يكرره.حين يرسم الفنان مأساةً على لوحته، أو يحكي الكاتب عن شخصيةٍ خيالية، فإن المشاعر التي يثيرها هي مشاعر حقيقية تماماً. الدموع التي تسيل أمام لوحةٍ ما هي دموع حقيقية، والألم الذي تثيره رواية هو ألمٌ حقيقي. الخيال هنا يصبح وسيلةً لاختبار التجارب الإنسانية في مختبر آمن، نعيش فيه كل المآسي والمفرحات دون أن تمزقنا.
التأمل في الذات:
المنبع الأول للإبداع كل إبداعٍ عظيم يبدأ من رحلةٍ داخلية. لا يستطيع الأديب أن يصور العالم إلا بعد أن يفهم أعماق نفسه أولاً. التأمل في الذات هو البذرة التي تنمو منها كل الأزهار الإبداعية. من هناك، ينتقل الخيال إلى الآخرين، فيصبح وسيلةً للتواصل. حين يكتب الأديب عن الحب أو الخوف أو الوحدة، فإنه لا يعبر عن نفسه فقط، بل يعبر عن كل من شاركه هذه المشاعر.
الخيال ملجأً وعلاجاً:
في عالمٍ قاسٍ، يصبح الخيال الملجأ الأخير حيث نعيد شحن طاقاتنا المعنوية. فيه نعوض كدر الواقع بحلاوة التمني، ونخفف عن أنفسنا العليلة بجرعات من الأمل. لكن هذا الهروب مؤقتٌ وعلاجي، كالغرفة المعزولة صوتياً نخرج منها إلى العالم بأذنٍ أكثر حساسية للجمال. الخيال ليس إنكاراً للواقع، بل هو استراحة محارب نعود منها أقوى لمواجهة الحياة.
أصدق الناس:
الكتاب هم أصدق الناس،ليس لأنهم يقدمون لنا عالماً مثالياً، بل لأنهم يقدمون لنا الحقيقة في أبهى حُللها. لا يخافون من مواجهة القبيح ولا يترددون في تبني الجميل. في نصوصهم نجد صدقاً نادراً، فهم يكتبون بلا تحفظ، ويكاشفون أنفسهم والقارئ في نفس الوقت. هذه المكاشفة هي أعلى درجات الصداقة.
الخيال ليس ضد الواقع،بل هو واقعٌ مكثفٌ مضيء. هو الواحة التي نرتوي منها لنستطيع السير في صحراء الحياة. والأديب الحقيقي هو ذلك الواقعي العميق الذي يستخدم خياله ليس لصنع عالمٍ موازي، بل لصنع عدسةٍ نرى من خلالها عالمنا بشكلٍ أوضح وأجمل. فهو لا يهرب من الواقع، بل يغوص فيه إلى أقصى الأعماق، ثم يعود لنا باللآلئ المكنونة. وهكذا يصبح الخيال أعلى أشكال الواقعية، حين يكون وسيلةً لا للهروب، بل للفهم والتعبير والتحول.