الكاتب: المبدع حسين العلي
الحياة.. تلك المساحة الغامضة التي تحتشد بالأسئلة، وتتناثر على دروبها مفاتيحُ الأجوبة، لكنّ أحدًا لا يملك اليقين الكامل، ولا الخريطة النهائية. إنها اللغز الأكبر الذي يستنفر كلّ إنسانٍ ليُفكّ شفرته على طريقته، وفق رؤيته، وخلفيّاته، وأحلامه، وخيباته. نحن هنا، في هذه الرقعة من الزمن، نحاول أن ننسج من لحظاتنا قصصًا، ونصنع من أنفاسنا سيناريوهات، نتمنى جميعًا أن تنتهي بـ “وعاشوا في سعادةٍ أبديّة”. لكنّ الحياة، بتعقيدها وجبروتها، لا تسير وفق أمنياتنا وحدها.
إنها تسير وفق سنن إلهية، ونظم كونية، وغايات إلهية، وضعها من بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فسبحانك ربي! ما أعظم شأنك، وما أعمق حكمتك! فالحياة لا تسأل عن عدد المرات التي سقطت فيها، ولا عن كمّ الجراح التي خلّفتها في عقلك وقلبك وروحك. إنها لا تهتمّ بضعفك بقدر ما تهتم بقدرتك على النهوض.
لذلك، حين تصفعك الحياة، وتُغلق الأبواب في وجهك، وتتركك في عتمة اليأس، لا تقم الدنيا ولا تقعد. لا تنتهي القصة. بل تستمرّ الشمس في الشروق، والنجوم في التألق، والأرض في الدوران. لماذا؟ لأن الحياة أكبر من ألمك، وأوسع من جرحك، وأعمق من إحباطك. لأن النظام الكوني لا يتوقف عند أحد، بل يمضي قُدمًا، حاملًا في طياته دائمًا بصيص أمل، ومكانًا للجمال، وفرصةً للتجدّد.
تضحك بعد البكاء، وتنهض بعد السقوط، وتبدأ من جديد بعد الخيبة، لأن فيك قوةً خفيّة، وفي الكون رحمةً لا تُرى، وفي قلب الحياة توازنٌ لا يختل. قد لا تراها في لحظة الألم، لكنها هناك، تنتظرك أن تفتح عينيك من جديد، لترى أن اليوم التالي قد يكون أجمل، وأن الضحكة قد تعود أقوى، وأنّ الأمل قد يولد من رماد اليأس.
إنّ سرّ الاستمرار ليس في تجنّب الألم، بل في قبوله جزءًا من رحلة النمو. ليس في الهروب من الفشل، بل في تحويله إلى درس. ليس في انتظار النهاية السعيدة، بل في صناعتها بأنفسنا، عبر إرادة لا تقهر، وإيمان لا يتزعزع، وتفاؤل لا يموت.
لهذا، لا تنظر إلى الحياة كخصمٍ يجب هزيمته، بل كمعلمٍ صعبٍ وحكيم. لا تُحصِ جراحك، بل احصِ الدروس التي خلّفتها. لا تيأس من قسوة اللحظة، فربما كانت القسوة هي التي ستعلمك القوة. وتذكّر دائمًا: أنت لست وحدك في هذا الدرب، فكل إنسانٍ يحمل جراحه، ويواصل سيره، لأنه يعلم أن الشمس ستشرق غدًا، وأن الأيام تتغير، وأن بعد العسر يُسرًا.
عِشْ بالأمل، لأنه الوقود الذي يحرّكك نحو الغد. عِشْ بالتفاؤل، لأنه النور الذي يضيء دربك في الظلام. عِشْ بابتسامة، لأنها سرّ جمال الروح، وجاذبية القلب. عِشْ لتعبد الله، وتتقرب إليه، ففي عبادته طمأنينة، وفي ذكرِه راحة، وفي رضاه غاية.
ولعلّ أعظم حكمةٍ نصل إليها بعد كل هذا العمر، هي أننا حين نغادر، ستستمر الحياة بدوننا، لكنّ ما قدمناه من خير، وما زرعناه من أمل، وما تركنا من أثر، هو الذي سيبقى. وهو الذي سيجعلنا، يومًا، نستحقّ بشرى الخلود في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
فلا تنظر إلى الحياة كلغزٍ مستحلّك، بل كسرٍّ جميلٍ تستطيع أن تفكّ شفرته بالإيمان، والصبر، والحب. لأنك، في النهاية، جزء من هذا الكون العظيم، وقصة من قصصه التي لا تنتهي.