...
Img ٢٠٢٥٠٩٠٧ ١٦٢٤٠٦

الكاتب حسين العلي 

يُقال إنَّ العراقَ بلدُ النهرين، لكنَّ الحقيقةَ التي لا تُقالُ هي أنه بلدُ النهرين ليسَ دجلة والفرات بل نهرين آخرين: نهرُ النفطِ الذي يتدفقُ بغزارةٍ ليمحو ظمأَ العالمِ للطاقةِ، ونهرُ اليأسِ الذي يتدفقُ في عروقِ الشبابِ العراقي، محوّلاً أحلامَهم إلى سرابٍ على رصيفِ الانتظار. إنها مفارقةٌ مؤلمةٌ تضعُنا وجهاً لوجهٍ أمامَ حقيقةٍ قاسيةٍ: بينما تفيضُ خزائنُ الدولةِ بملياراتِ الدولاراتِ من عوائدِ النفط، تفيضُ قلوبُ الشبابِ بالمرارةِ وخيبةِ الأملِ. هذه ليست مجردَ قصةٍ عن البطالة، بل هي قصةُ جيلٍ كاملٍ يرى ثروةَ بلادهِ تُباعُ وتُبددُ دونَ أن يجدَ لهُ موطئَ قدمٍ في المستقبلِ.

 

طالما نظرَ العراقيون إلى ثرواتِ بلادِهم الطبيعيةِ كهديةٍ إلهيةٍ، تُبشّرُ بعصرٍ من الرخاء والازدهار. كانَ الحلمُ أن تُترجمَ هذه الثروةُ إلى واقعٍ ملموسٍ: مصانعُ تدوي فيها عجلاتُ الإنتاج، حقولٌ زراعيةٌ تثمرُ الخير، جامعاتٌ تطلقُ العقول، ومستشفياتٌ تجددُ الأمل. لكنَّ الواقعَ كانَ أكثرَ قتامةً من أيِّ كابوس. فالنفطُ الذي كانَ يجبُ أن يكونَ جسراً للعبورِ إلى مستقبلٍ أفضل، تحولَ إلى لعنةٍ يستفيدُ منها قلةٌ قليلةٌ، بينما تُركَ الأكثريةُ على الرصيف، يشاهدونَ القطارَ يمرُّ من أمامِهم دونَ أن يتركَ لهم مكاناً. هذا الفشلُ في استثمارِ الثروةِ النفطيةِ ليسَ مجردَ خطأٍ إداري، بل هو خيانةٌ لآمالِ وأحلامِ جيلٍ كاملٍ.

 

عندما نتحدثُ عن البطالةِ في العراق، لا نتحدثُ فقط عن أرقامٍ جامدةٍ تُحصى في التقاريرِ الحكومية، بل نتحدثُ عن إنسان، عن شابٍ يحملُ شهادةً جامعيةً، كانَ يرى فيها جوازَ سفرِه إلى مستقبلٍ واعد، ليجدَها مجردَ ورقةٍ تثقلُ كاهلَه. البطالةُ في العراقِ هي أكثرُ من مجردِ فراغٍ في الجيب؛ إنها فراغٌ في الروح، شعورٌ بالعجزِ وانعدامِ الجدوى، إحساسٌ بأنه لا مكانَ لهُ في هذا الوطنِ الذي يعاني من أزمةِ ثقةٍ مع أبنائه. كلُّ يومٍ يمرُّ على الشابِ العاطلِ عن العملِ هو يومٌ يُضافُ إلى قائمةِ المعاناة، يومٌ تُؤجلُ فيهِ الأحلام، وتصبحُ فيهِ الحياةُ مجردَ انتظارٍ مؤلمٍ لشروقِ شمسٍ قد لا تجلبُ جديداً.

 

المشكلةُ الحقيقيةُ ليست في قلةِ الموارد، بل في غيابِ الإدارةِ السليمةِ والرشيدة. تُبدَّدُ عوائدُ النفطِ الهائلةُ في مشاريعَ وهمية، وتُسرقُ عبرَ قنواتِ الفسادِ التي باتتْ تنخرُ في كلِّ مفاصلِ الدولة. إنَّ كلَّ برميلِ نفطٍ يُباعُ، وكلَّ دولارٍ يُضافُ إلى الخزينة، يقابلهُ فرصةٌ ضائعة: فرصةٌ لإنشاءِ مصنعٍ يوظّف، أو مدرسةٍ تُعلّم، أو شركةٍ تُطلقُ العجلةَ الاقتصادية. إنها دورةٌ مفرغةٌ من الفشلِ والإهدار، تُعمّقُ الأزمةَ وتُغذّي اليأس، وتُحوّلُ العراقَ من بلدٍ غنيٍّ بثرواته إلى بلدٍ فقيرٍ في إدارته.

 

إنَّ الثروةَ الحقيقيةَ لأيِّ بلدٍ ليست في باطنِ أرضه، بل في طاقاتِ أبنائه وقدراتِهم. فما قيمةُ النفطِ إن لم يُترجمْ إلى تعليمٍ يرفعُ الجهل، وصحةٍ تُعيدُ الأمل، وعملٍ يُكرمُ الإنسان؟ التحدي الأكبرُ الذي يواجهُ العراقَ اليومَ هو غيابُ الرؤيةِ الاستراتيجية، غيابُ الإرادةِ السياسيةِ التي تدركُ أنَّ الاستثمارَ في البشرِ هو أعلى أنواعِ الاستثمارِ عائداً، وأبقاها أثراً. فالدولُ التي تنهضُ، هي التي تُدركُ هذه الحقيقةَ وتضعُ الشبابَ في صلبِ خططِها التنموية، بينما يظلُّ العراقُ غارقاً في دائرةِ التخلف، معتمداً على موردٍ واحدٍ، غيرَ قادرٍ على تحويلِ أحلامِ أبنائه إلى واقعٍ.

 

إلى متى ستظلُّ قطرةُ النفطِ أغلى من دمعةِ شاب؟ وإلى متى سيظلُّ الدولارُ المنهوبُ سرقةً لمستقبلِ جيلٍ بأكمله؟ إنَّ السؤالَ الأهمَ الذي يجبُ طرحهُ اليوم: هل يسمعُ المسؤولونَ صرخةَ الشباب؟ إنَّ الحلَّ ليسَ مستحيلاً؛ فهو يكمنُ في إعادةِ هيكلةِ الاقتصادِ، ومحاربةِ الفساد، ووضعِ خططٍ استراتيجيةٍ حقيقيةٍ تستثمرُ في الشباب، وتحوّلُهم من طاقةٍ معطلةٍ إلى طاقةٍ إنتاجيةٍ تساهمُ في بناءِ الوطن.

 

العراقُ ليسَ فقيراً في موارده، بل هو غنيٌّ بثرواته، لكنَّ الفقرَ الحقيقيَّ هو فقرُ الإرادةِ والرؤيةِ. ولن ينهضَ العراقُ إلا عندما يصبحُ شبابهُ هم الثروةَ الحقيقيةَ التي تُدارُ وتُستثمرُ، لا أن يظلوا ضحايا لثروةٍ لم يجدوا منها إلا الفرصَ الضائعةَ والأحلامَ المؤجلةَ.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *