...
Ff639dd8c7700e58e80cb191792f3a2b

الكاتبة منال ربيعي 

الأدب ليس حروفًا منثورة على الورق، بل هو نبض خفيّ يتوارثه البشر منذ فجر التاريخ، جسرٌ لا يُبنى بالحجارة بل بالأحلام، ولا ينهار أمام الحروب ولا حدود الممالك. فمن خلاله عبرت الحضارات لتتعارف، وتلاقت الأرواح لتدرك أن الإنسان — أيًّا كان موطنه — يشارك أخاه الإنسان ذات القلق والرجاء.

في مصر القديمة، لم تكن البرديات مجرد نصوص مدونة، بل كانت وحيًا يعلّم الأجيال معنى العدل والانتماء. قصة الفلاح الفصيح لم تُروَ فقط عن رجل يطلب حقه، بل عن روح بشرية تعلن أن الكلمة قادرة على أن تُقيم ميزان الحق. وقصة سنوحي لم تُسجل هروبًا وعودة، بل بحثًا أبديًا عن هوية الجذور ودفء الوطن. هذه النصوص عبرت العصور لأنها صاغت أسئلة لا تخص المصري وحده، بل تخص كل إنسان.

وفي بلاد الرافدين، انبثقت ملحمة جلجامش لتعلن أن الخلود لا يُنال بالجسد، بل بالأثر الذي يتركه المرء في قلوب الناس. تلك الأسئلة الوجودية سرت كالنار في نصوص الإغريق، فانعكست في الإلياذة والأوديسة، ثم في أعمال المفكرين والفلاسفة الذين صاغوا وجدان أوروبا. هنا نرى أن النصوص ليست حكايات جامدة، بل بذور روحية تهاجر لتثمر في أرض جديدة.

ثم جاء العصر العباسي، حيث جعل بيت الحكمة من الترجمة طريقًا لالتقاء العقول. لم تكن الترجمة مجرد نقل كلمات، بل فعل إحياء وإعادة ميلاد، إذ التقت روح أرسطو بأذهان الفلاسفة المسلمين، وامتزجت الحكمة الفارسية مع الخيال العربي، ثم انتقل هذا كله إلى أوروبا عبر الأندلس ليصير بذرة لنهضتها. الأدب هنا كان جسرًا خفيًا بين قرطبة وبغداد وأثينا وفلورنسا.

ولمّا خرجت ألف ليلة وليلة من الشرق إلى الغرب، لم تحمل فقط قصصًا مسلّية، بل حملت صورة إنسان يبحث عن النجاة عبر السرد، كما فعلت شهرزاد بكلماتها وهي تقاوم الموت بالحكاية. ولذا لم يكن غريبًا أن يقع غوته في أسرها، وأن تتردد أصداؤها في مسرح شكسبير وأعمال ديكنز. لقد أثبتت أن الأدب أقوى من السيف، لأنه يخلّد الروح ويهزم الفناء.

واليوم، حين نقرأ نجيب محفوظ، نجد أن القاهرة ليست مجرد مدينة، بل كائن حيّ ينبض بالتاريخ. وحين نتتبع ماركيز، نشعر أن الواقعية السحرية ليست ملكًا للكاريبي وحده، بل مرآة لأحلام كل شعب. وعبر كويلو نتلمّس سعي الروح الإنسانية الأبدي نحو المطلق. هكذا يظل الأدب يجمعنا رغم اختلاف الألسن، لأن الإنسان في النهاية لا يبحث إلا عن الحقيقة ذاتها، في صورة حب أو عدل أو حلم.

الخاتمة
الأدب ليس ترفًا، بل هو شجرة جذورها في الأرض وثمارها في السماء. هو الذي يذكّرنا أننا أبناء حكاية واحدة، وأن حضاراتنا مهما بدت متباعدة إنما تلتقي في النصوص التي تُنصت للروح. لذلك يظل الأدب جسرًا خالدًا، يربط القلوب قبل الحضارات، ويؤكد أن ما يجمعنا أعمق مما يفرّقنا، وأن الإنسان لا يخلّد إلا بالكلمة التي تُحسن أن تقول من هو.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *