...
IMG 20251112 WA0013

 

الكاتبة مريم لقطي

 

جلست أمارسلين على المقعد الخشبي في الحديقة التي لطالما شهدت لقاءاتهما. كانت الريح تحمل عبق الزهور، تمامًا كما في تلك الأيام البعيدة. أغمضت عينيها للحظة، وعادت بها الذاكرة إلى الوراء

 

كانت تلك المرة الثانية التي رأته فيها، واقفًا تحت شجرة القيقب، يتأملها بنظرة دافئة، كأنما يعرفها منذ زمن. ابتسامته حينها، تلك التي بدت وكأنها ضوء فجر يشق عتمة الليل، كانت كفيلة بجعل قلبها يخفق للمرة الأولى بتلك الطريقة.

 

تذكرت كيف كان يسير بجانبها، يروي لها قصصه بحماس طفل، وكيف كان يضحك عندما كانت تتظاهر بالغضب منه. كانت ضحكته صافية، نقية، تُشبه المطر حين يلامس الأرض العطشى.

 

وفي أحد الأيام، حين باغته المطر، أمسك بيدها وسارا معًا تحت السماء الملبدة، بينما كانت قطرات الماء ترسم على وجهيهما لحظة لا تُنسى. رفع يده ليزيح خصلة بللتها الأمطار عن جبينها، وهمس يومها:

“لو كان لي أن أختار حياة أخرى، لاخترتكِ مجددًا، بنفس التفاصيل، وبنفس المصادفة التي جمعتنا.”

 

فتحت عينيها مجددًا، لكنها لم تجد سوى مقعد خشبي فارغ بجانبها، وشجرة القيقب التي لم تتغير. لم يكن إدوارد هنا، لكنه كان في كل شيء حولها في النسيم، في رائحة الزهور، في ضوء الشمس المتسلل بين الأغصان.

 

ابتسمت برفق، وكأنها تحيي الذكرى، ثم همست لنفسها:

“بعض الأشخاص لا يغيبون، حتى حين يختفي أثره إنهم يبقون، لأنهم كانوا حياةً قبل أن يكونوا ذكرى.

في تلك اللحظة، في مكتبه، جلس إدوارد خلف طاولته، تتوسطها صورة قديمة لأمارسلين، كانت تبتسم فيها كما كانت تفعل دائمًا. حدّق فيها بصمت، كأنه يخشى أن تتلاشى إن أغمض عينيه. مدّ يده ليلامس إطار الصورة بأطراف أصابعه، ثم تمتم بصوت بالكاد يسمعه:

“بعض الوجوه لا تتلاشى، حتى وإن أصبحت مجرد ذكرى لأنها كانت يومًا الحياة ذاتها.”

ليس الفراق هو النهاية، ولا الغياب يعني النسيان. هناك حبٌّ يولد ليبقى، يسكننا حتى بعد أن يغادر أصحابه، يتنفس في تفاصيلنا الصغيرة، في الأماكن التي شهدت ضحكاتنا، في الأغاني التي كنا نرددها معًا، في ضوء القمر الذي تأملناه ذات ليلة بقلوب نابضة.

هناك من يرحلون لكنهم لا يغيبون، كأن أرواحهم تترك أثرًا لا يُمحى، كأن قلوبنا اعتادت نبضهم فلا تهدأ إلا بذكراهم. الحب الحقيقي لا تقيده المسافات، ولا يمحوه الزمن، إنه وعدٌ غير منطوق، وذكرى ترفض أن تذبل.

 

نحن لا نحب لأننا معًا، بل لأن الحب حين يكون صادقًا، يبقى حتى وإن لم يعد لنا نصيب في اللقاء.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *