الكاتبه أمل سامح
خرج المشيّعون من المقبرة كأشباحٍ تتثاقل على الأرض. وجوههم شاحبة، وعيونهم تلتقط الظلال بين الأشجار، لكن لم يعرف أحد أن الموتة تحت التراب لم تكن مجرد ضحية… كانت روحها العاشقة المهووسة تضحي بحياتها لإنقاذهم من مصيرٍ مظلم.
كل خطوة كانت كأنها تغرق في صمتٍ ثقيل، والهواء مشبع برائحة التراب والدم القديم، كأنه يهمس لهم بأسرار لم يُفكك رموزها بعد.
قبل دقائق، أُغلق النعش بعنف، وارتجف الكاهن قائلاً بصوت مخنوق:
– “اللهم تقبّل التضحية…”
لكن ارتعاشة يده كانت أعنف من أي صلاة، كأنها تعرف أن وراء الغطاء خشية أكثر من الموت.
قبلها بقليل، كان البيت العتيق ينبض بأنينٍ حيّ، الجدران تتلوّى وكأنها كائن حي، والمرايا كسرت وجوه الحاضرين إلى شظايا تشوه الواقع. تمددت هي على الأرض، صدرها مثقوب بسكين صدئ، وابتسامة قاتمة معلّقة على شفتيها، ابتسامة من عرف أن موتها هو الخلاص الوحيد لهم جميعًا.
يدها، التي غرست النصل في قلبها، كانت يد العاشقة المهووسة، تضحي بحياتها لنجاة من أحبّت، كأن دمها رسالة حب قاتمة لا يفهمها سوى الموت.
قبل ذلك بساعات، انطفأت المصابيح، وارتجفت النوافذ، وغطّى الظلام البيت ببطءٍ مخيف. أصوات أقدام ثقيلة دوت فوق السلالم، ولكن لا جسد يتحرك. النساء صرخن عند انعكاس وجوههن في المرايا، تحوّلت وجوههن إلى صور مشوهة، غارقة بدماء لم تُسفك بعد، كأن الماضي يسبق الحاضر بخطوة.
قبلها، كانوا ضيوفًا أبرياء. جاءوا للعزاء، لكن الدعوة لم تكن للعزاء، بل كانت لفخ مظلم، بيت يتنفس شرًا، جدرانه لثة، وظلاله أسلاك تحبس الأرواح.
أما البداية الحقيقية، فكانت في الورقة التي سقطت من جيب الميتة، مكتوبة بدمٍ جاف:
“أنا الحارس الأخير. إن متُّ، بقيتم أحياء. وإن حييتُ… انفتح الجحيم.”
حين قرأتها، ابتسمت بهدوء قاتم. شعرت بكل نبضة في قلبها، كل خفقة كانت تتلوى بين الموت والحياة، بين الحب واللعنة. دمها كان القفل الأخير، وروحها العهد النهائي مع من أحبّت، تضحي بكل شيء من أجلهم.
وهكذا انتهت البداية… بجنازة ثقيلة، صمتٍ أبكم، وكوابيسٍ مخبأة خلف كل ظل، وحبٍ قاتم يختبئ خلف الموت، بدايةً تتكوّن من تضحية عاشقَت قلبها كل شيء، لتظل أرواحهم على قيد الحياة.