الكاتبة منال ربيعي
الكتابة فعل بسيط في ظاهرها، لكنّها في جوهرها أداة عميقة تمسّ روح الإنسان وتغيّر مساره. فالورقة التي تبدو صامتة تتحوّل بمجرد أن يخطّ عليها المرء أفكاره إلى مرآة تعكس داخله، وتجعله يرى ذاته بوضوح أكثر مما لو نظر في أي مرآة زجاجية. هنا تبدأ رحلة النضج الروحي، إذ يواجه الكاتب نفسه بصدق، ويضع ضعفه وقوته جنبًا إلى جنب على السطر.
الإنسان حين يكتب لا يكتفي بسرد أفكاره، بل يتعلم أن يحوّل جراحه إلى معنى، وأن يجعل من لحظاته المظلمة دروسًا تقوده إلى النور. هذا التحوّل الداخلي هو ما يفتح الباب للنضج الروحي. فالمشاعر التي كانت ثقيلة تتحول في النص إلى خبرة، والصمت الذي كان خانقًا يتحوّل إلى حوار مع النفس.
لكن الكتابة لا تُغيّر الأفراد فقط، بل تغيّر المجتمعات أيضًا. يكفي أن نتأمل أثر كتابات بعينها عبر التاريخ. في مصر القديمة، على جدران المعابد ولفائف البردي، ترك الكهنة والكتبة نصوص الحكمة مثل “تعاليم بتاح حتب”، التي أرست قيم العدل والرحمة وضبط النفس، فساهمت في بناء مجتمع يقدّس النظام الأخلاقي. وفي التراث الإسلامي، نجد “الرسائل” و”الحِكم” التي خلّفها المتصوفة مثل ابن عطاء الله السكندري، والتي لم تكن مجرد نصوص دينية، بل مدارس في تهذيب الروح وتربية النفس.
وفي التاريخ الحديث، نجد أمثلة لا تقل قوة. رواية “كوخ العم توم” لهارييت ستو كانت شرارة ساعدت على إشعال الوعي ضد العبودية في الولايات المتحدة، حتى قال الرئيس أبراهام لينكولن لصاحبتها: “إذن هذه هي السيدة التي أشعلت الحرب.”، في إشارة إلى تأثير روايتها على الرأي العام. كذلك، كتبت سيمون دو بوفوار “الجنس الآخر”، فغيّرت وعي أجيال كاملة تجاه قضية المرأة، وفتحت الباب لحركات نسوية اجتاحت العالم. وفي الأدب العربي، نجد طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” قد رسم ملامح فكرية جديدة لمجتمع يتطلع للعلم والانفتاح.
هذه الأمثلة تُثبت أن الكتابة ليست فعلًا فرديًا محضًا، بل طاقة قادرة على إحداث تغيير واسع، وأنها لا تُهذّب الفرد وحده، بل تهذّب المجتمع بأسره. فكلما كتب إنسان تجربته بصدق، وجد فيها الآخرون جزءًا من أنفسهم، وتحوّلت الكتابة إلى جسر يربط بين الأرواح، يعلّمها التسامح ويقودها نحو وعي أعمق.
الكتابة بهذا المعنى رحلة مزدوجة: فهي من جهة طريق شخصي للنضج الروحي، ومن جهة أخرى قوة جماعية تُعيد صياغة الوعي العام. ولهذا لم تفقد الكتابة أهميتها أبدًا رغم تغيّر الوسائط، لأنها كانت وستظل وسيلة الإنسان الأعمق لفهم نفسه والعالم.
وفي النهاية يمكن القول إن كل نص يولد لا يضيف فقط إلى رصيد الأدب، بل يضيف إلى رحلة الإنسانية في بحثها عن المعنى. والكاتب الذي يكتب بصدق، حتى وإن كان مجهولًا، يشارك في هذه الرحلة الكبرى، حيث تتحول الكتابة إلى عبور متواصل من الحرف إلى الحكمة، ومن الذات إلى الروح، ومن الفرد إلى المجتمع.