...
Img ٢٠٢٥٠٩٢٥ ١٣٠١٠١

الكاتب: حسين العلي 

ليست الكتابةُ مجرد حروف تسطَّر على ورق، أو نقاط تضاء على شاشة، بل هي رحلة وجودية شاقة يخوضها الكاتب في أعماق نفسه أولاً، قبل أن يخرج بها إلى العالم. هي عملية حفرٍ في طبقات الذاكرة والوجدان، واستخراجٍ للكنوز المكنونة، وصقلٍ لها حتى تلمع فكرةً مكتملة، أو عالماً روائياً قائماً بذاته. والكاتب الحقيقي ليس من يمتلك موهبة فطرية فحسب، بل هو ذلك الذي يمتلك الشجاعة ليدرب هذه الموهبة، ويصقلها بالقراءة والممارسة والصبر، حتى تتحول من ومضة عابرة إلى شعلة متوقدة مستمرة.

إن تأليف كتاب هو مغامرة إنسانية عظيمة، تشبه بناء عالم خاص بك، له قوانينه، وشخصياته، وتضاريسه. ولكل عالم، كما لكل رحلة، بداية يجب أن تُحْكَم، وخطوات يجب أن تُؤَسَّس. فهيا بنا نغوص في الأعماق، لا لكي نعرف “ماذا” نكتب فقط، بل “لماذا” نكتب، و”كيف” نبني صرحاً يليق بالفكرة التي تستحق أن تخلد.

الخطوة الأولى:لماذا أكتب، وماذا أكتب؟

قبل أن تلمس القلم، وقبل أن تفتح ذلك الملف الجديد على حاسوبك وترهب بياضه، وقف مع نفسك وقفة محاسبة طويلة. لا تكن كمن يبحر في محيط بلا بوصلة، فتضيع به الرياح ويضيع معه المعنى. الأسئلة الجوهرية هنا هي:

السؤال الوجودي: لماذا أكتب؟ ابحث عن الدافع الحقيقي الذي يدفعك لهذا الفعل. هل هو حاجة داخلية للتعبير عن رؤية ما للعالم؟ هل هو شغف بسرد الحكايات؟ هل هو رغبة في مشاركة معرفة تخصصية تثرى الآخرين؟ أم هو بحث عن خلاص شخصي، عن فهم للذات عبر عملية الكتابة ذاتها؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون الوقود الذي سيدفعك خلال لحظات اليأس والإعياء الحتمية. الكتابة بدافع الشهرة أو المال فقط، سرعان ما ينضب مع أول عاصفة من صعوبات الطريق.

السؤال التكتيكي: ماذا أكتب؟ هنا يجب أن تحدد شكل عالمك. أهو رواية تحاكي الواقع أو تتخيل المستقبل؟ أهي مجموعة قصصية قصيرة تلتقط اللحظات المفصلية في الحياة؟ أهو كتاب فكري أو في تطوير الذات يقدم رؤية منهجية؟ أم هو مقال طويل يحلل ظاهرة ما؟ تحديد الجنس الأدبي أو المعرفي هو الأساس الذي ستبني عليه كل شيء لاحقاً. فتقنيات كتابة الرواية تختلف عن تقنيات كتابة البحث، وحبكة القصة القصيرة تختلف عن منهجية الكتاب العلمي. هذا التحديد ليس قفصاً، بل هو هيكل عظمي يحفظ للجسم قوامه.

لا تستهين بهذه الخطوة. امكث مع هذين السؤالين أياماً، بل أسابيع. اكتب أفكارك حولهما في مفكرة خاصة. كلما كانت الفكرة الأساسية واضحة وجلية في ذهنك، كان السير في الطريق أمتن وأكثر ثباتاً.

الخطوة الثانية: القراءة كمنهج حياة

الكاتب الجيد هو قارئ نهم قبل كل شيء. القراءة ليست ترفاً، بل هي عملية التزود الأساسية. كيف تريد أن تبنى عالماً وأنت لم ترَ كيف بنى الآخرون عوالمهم؟ كيف تريد أن تصوغ جملة مؤثرة وأنت لم تذق حلاوة الجمل المؤثرة في كتب غيرك؟ القراءة هنا ليست للتسلية، بل هي دراسة معمقة، وهي حوار صامت مع عقول أعظم منك.

القراءة في مجال التخصص: إذا كنت تريد كتابة رواية، فاغرق في قراءة الروايات الكلاسيكية والمعاصرة، العربية والعالمية. لا تقرأ للمتعة فقط، بل اقرأ كصانع. حلل كيف بنى فلوبير شخصية مدام بوفاري؟ كيف نسج نجيب محفوظ عالم الحارات المصرية؟ كيف أدار ماركيز زمن “مائة عام من العزلة”؟ لاحظ بناء الشخصيات، وتطور الصراع، وإدارة الزمن، وتقنيات الوصف والحوار. إذا كان كتابك في الفكر، فادرس كيف يقدم مفكرون مثل مالكوم غلادويل أو نعوم تشومسكي أفكارهم المعقدة بطريقة سلسلة؟ كيف يبنون حجتهم؟ كيف ينتقلون من نقطة إلى أخرى؟

القراءة خارج منطقة الراحة: لا تقتصر على مجالك. فالقارئ المتخصص فقط يصاب بالجفاف. اقرأ في الفلسفة، في التاريخ، في العلوم، في الشعر. هذه القراءات تثري مخزونك الثقافي، وتزودك باستعارات غير متوقعة، وتربط في عقلك خيوطاً بين المجالات معرفية مختلفة، مما يمنح كتابتك عمقاً وتميزاً فريداً. قراءة كتاب في علم الفلك قد يمنحك استعارة رائعة لوصف علاقة إنسانية، وتعلمك عن نظرية الفوضى قد يساعدك في فهم تعقيدات الحبكة الدرامية.

اجعل للقراءة وقتاً مقدساً في يومك. دون الاقتباسات التي أعجبتك، لاحظ الأساليب، واكتب انطباعاتك. القراءة هي الغذاء الذي ستتكون منه عظام ولحم كتابك.

الخطوة الثالثة: الانضباط اليومي للكتابة

هنا يكمن الفارق بين الحالم والكاتب: الممارسة. أكتب ذلك على جدار غرفتك: “الانتظار حتى ينزل الإلهام هو طريقة الهواة. أما المحترف، فيذهب إلى العمل كل يوم.” – هكذا قال تشاك كلوز. الإلهام زائر متقلب، لا يمكن الاعتماد عليه. الأساس هو الانضباط.

اضرب موعداً مع نفسك: حدد وقتاً ثابتاً للكتابة يومياً، ولو لمدة نصف ساعة. في الصباح الباكر، أو في وقت متأخر من الليل، المهم أن تجعلها طقساً ثابتاً لا تفاوض عليه. لا تنتظر أن “تشعر” أنك تريد الكتابة. اذهب إلى مكتبك في الموعد المحدد، واجلس. حتى لو كتبت “لا أعرف ما أكتب” مئة مرة، فأنت تتدرب على الانضباط.

الهدف هو الاستمرار، لا الكمال: في مرحلة المسودة الأولى، اطلب من “ناقدك الداخلي” أن يغادر الغرفة. مهمتك هي أن تملأ الصفحات، لا أن تكتب تحفة فنية من أول مرة. اكتب بحرية، دع الأفكار تتدفق بغض النظر عن الفوضى أو الأخطاء. يمكنك دائماً إصلاح النص السيء، لكنك لا يمكنك إصلاح الصفحة الفارغة. تذكر مقولة إرنست همنغواي الشهيرة: “المسودة الأولى من أي شيء هي فضاء”.

تمارين الإحماء: إذا شعرت بالجمود، استخدم تمارين كتابية بسيطة كإحماء. اكتب عن ذاكرة طفولة، صف غرفة الجلوس بتفاصيلها الدقيقة، احكي عن شخص تقابله يومياً دون أن تعرفه. هذه التمارين تحرك “عضلة الكتابة” وتفتح الأقفال الذهنية.

الكتابة اليومية هي التي تحول الهواية إلى حرفة، والحرفة إلى فن. هي التي تجعل الأسلوب شخصياً، والصوت متميزاً.

الخطوة الرابعة: التخطيط والهيكلة

قبل أن تشرع في بناء ناطحة سحاب، تدرس التربة وترسم المخططات الهندسية الدقيقة. كذلك هو تأليف الكتاب، خاصة إذا كان مطولاً. التخطيط لا يقتل الإبداع، بل ينظمه ويحميه من الضياع.

المخطط التفصيلي: هذا هو العمود الفقري لعملك. ابدأ بفكرتك المركزية، ثم قسمها إلى أفكار رئيسية (قد تصبح فصولاً). ثم قسم كل فكرة رئيسية إلى نقاط فرعية. في العمل الروائي، المخطط يعني تحديد الشخصيات الرئيسية والثانوية، ورسم خط تطور الصراع (البداية، صعود الحدث، الذروة، الحل)، وتحديد الأجواء العامة للمشاهد. في الكتاب غير القصصي، المخطط يعني التسلسل المنطقي لعرض الأفكار، من المقدمة إلى الخاتمة، مع ضمان ترابط الحجج ووضوحها.

المرونة مع المخطط: المخطط ليس سجناً حديدياً. أثناء الكتابة، قد تكتشف أفكاراً جديدة، أو تجد أن شخصيتك “تمردت” على ما خططت له واتخذت مساراً آخر أكثر إقناعاً. هذا جيد. المخطط هو خريطة ارشادية، لكن لا بأس من أن تسلك طرقاً جانبية جميلة تكتشفها أثناء الرحلة، شريطة أن تعيد تعديل الخريطة لتعكس هذه التغيرات، كي لا تفقد الاتجاه العام.

الهيكل الجيد هو الذي يجعل القارئ ينغمس في العالم الذي تبنيه دون أن يشعر بالتعثر أو التيه. هو الذي يمنح النص متانة وتماسكاً.

الخطوة الخامسة: المراجعة والتحرير

ها قد انتهيت من المسودة الأولى. احتفل بهذه اللحظة، فهي إنجاز عظيم. ولكن اعلم أن العمل الحقيقي على وشك أن يبدأ. الكتابة هي إبداع، أما المراجعة والتحرير فهما صنعة. هنا تتحول القطعة الخام إلى منحوتة ناعمة.

التباعد ثم العودة: بعد انتهاء المسودة الأولى، ضعها جانباً. ابتعد عنها لأيام، أو حتى لأسابيع. هذا الاباعد ضروري لتعود إليها بعين جديدة، بعين القارئ لا الكاتب. ستلاحظ الأخطاء والفجوات التي كانت مخفية عنك عندما كنت منغمساً في عملية الخلق.

مراحل المراجعة: لا تحاول معالجة كل شيء في مرة واحدة. قسّم عملية المراجعة إلى طبقات:

1.المراجعة الهيكلية: اقرأ النص كله مركزاً على الصورة الكبيرة. هل تتدفق الأحداث/الأفكار بسلاسة؟ هل هناك ثغرات في الحبكة؟ هل الشخصيات متطورة بشكل مقنع؟ هل الحجج متماسكة؟ قد تضطر إلى حذف فقرات، أو إعادة ترتيب فصول، أو حتى إعادة كتابة أجزاء كبيرة. هذه أصعب مرحلة، ولكنها الأهم.

2.مراجعة الأسلوب واللغة : هنا تنتقل إلى مستوى الجملة. حَسِّن الصياغات، استبدل الكلمات الضعيفة بأقوى منها، تأكد من تنوع طول الجمل، احذف الحشو الزائد. اجعل اللغة مشرقة، دقيقة، ومؤثرة.

3.مراجعة الأخطاء : راجع النص بحثاً عن الأخطاء الإملائية والنحوية وعلامات الترقيم. هذه المرحلة الأخيرة تجعل عملك يبدو احترافي.

4.الاستعانة بالآخرين: لا تثق في عينيك فقط. اطلب من قارئ أو صديق متمكن، أو من محرر محترف، أن يقرأ عملك ويقدم ملاحظاته. الرأي الخارجي الثمين يكشف لك نقاط العمى التي لا تراها.

الخاتمة: فضيلة الاستمرار

رحلة الكتابة ليست سباقاً سريعاً، بل هي ماراثون طويل. ستعترضك لحظات من الشك الذاتي القاتل، حيث يهمس لك صوت داخلي بأن ما تكتبه تافه ولا يستحق. ستعاني من “الجمود الكتابي”. ستشعر أنك تدور في حلقة مفرغة.

هنا تظهر فضيلة الإصرار والصبر. تذكر دائماً “لماذا” بدأت. كل كاتب عظيم مر بهذه اللحظات. الفرق هو أنهم لم يتوقفوا. كانوا يكتبون حتى في أسوأ لحظاتهم. كل جملة تكتبها، كل فقرة تنتهي منها، كل فصل تكمله، هو انتصار صغير. حتى المحاولات الفاشلة هي دروس ثمينة تشكل كاتبك الداخلي.

فلا تنتظر. ابدأ اليوم. ابدأ بالخطوة الأولى: اسأل نفسك: لماذا أكتب؟ ثم التقط قلماً، وافتح مفكرة، واكتب أول كلمة في رحلتك الطويلة والجميلة. لأن كل كتاب عظيم، كان يوماً ما مجرد فكرة عابرة في رأس إنسان ما، قرر أن يمنحها وقتاً، وجهداً، وإصراراً، حتى أصبحت حقيقة تشاركنا إياها.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *