...
Img 20250615 wa0113

حوار: مريم نصر

-بداية عرفنا بنفسك

أنا حسين العلي، من العراق، مواليد عام 1986. كاتب يبحث عن المعنى في التفاصيل الصغيرة، وعن النور وسط عتمات التجربة. أكتب لأن الكتابة، بالنسبة لي، ليست ترفًا، بل وسيلة لفهم العالم ومحاورته. منذ سنواتي الأولى، كنت أميل إلى التأمل والانصات لما تقوله اللحظة بصمتها، ثم وجدت في اللغة ملجأً أعبّر من خلاله عن داخلي وأرسم ملامح الحياة كما أراها، لا كما تُروى.

-متى بدأت شغفك بالكتابة؟ وهل كنت تتوقع أن تصبح كاتبًا يومًا ما؟

بدأ شغفي بالكتابة في عام 1999، كنت حينها في بدايات مراهقتي، أكتب خواطر بسيطة ومشاعر مبعثرة لا أعرف كيف أُسميها، لكنها كانت تشبهني كثيرًا. لم أكن أتصور أني سأصبح كاتبًا بالمعنى المتعارف عليه، لكني كنت أشعر دومًا أن بيني وبين اللغة علاقة خاصة، علاقة لا تخضع للتخطيط، بل تنمو بصمت. كنت أكتب لأفهم نفسي، لأقاوم الوحدة، ولأضع نقطة نور على هامش الأيام. ومع مرور الوقت، نضجت تلك البدايات، وتحولت إلى يقين: أن الكتابة ليست ما أفعله، بل ما أنا عليه.

-ما أول شيء كتبته؟ وهل ما زلت تحتفظ به؟

أول ما كتبته كانت خاطرة عن رحيل والدتي، رحمها الله. كانت الكلمات يومها مرتبكة، لكنها صادقة ومحمّلة بكل ما لا يُقال. لم أكن أملك أدوات اللغة كما ينبغي، لكن الحزن وحده كان كافيًا ليهدي يدي نحو الورق. لا أدري إن كنت أحتفظ بتلك الورقة فعليًا، لكنها محفوظة في ذاكرتي كما تُحفظ الجراح العميقة… لا تُرى، لكنها لا تُنسى. تلك الخاطرة كانت لحظة انكشاف داخلي، وربما كانت أول اعتراف بيني وبين الكتابة بأننا سنسير معًا مهما تبدّلت الدروب

-من كان أول من شجعك على الكتابة؟

كان أول من شجّعني على الكتابة أخي، وصديقي، وأستاذي الفاضل في مراحل الثانوية. كلٌّ منهم كان له دور مختلف، لكنهم جميعًا شكّلوا جسرًا بين خوفي الأول من الحرف، وثقتي المتنامية به. أخي كان يرى فيّ شيئًا لم أكن أراه، وصديقي كان أول من يقرأ ما أكتبه وكأنه يكتشف كنزًا، وأستاذي منحني دفعة الإيمان حين قال ذات مرة: “فيك نفس كاتب، لا تستهِن بما تخطّه يدك”. تلك الكلمات كانت كافية لتمنحني الجرأة لأستمر.

-هل الكتابة بالنسبة لك هواية تحولت لمهنة، أم كانت هدفًا من البداية؟

الكتابة بالنسبة لي كانت وما زالت هواية، لكنها ليست كأي هواية عابرة. هي الملاذ الذي ألوذ به حين تضيق الأيام، والصوت الذي أعبّر به عن أشياء يصعب قولها بصوتٍ عالٍ.

-من أين تستوحي أفكارك؟ هل هناك مصدر إلهام معين يتكرر في أعمالك؟

أستمدّ أفكاري من كل شيء تقريبًا… من موقف عابر، أو كلمة قالها شخص دون أن ينتبه، أو حكمةٍ سمعتها أو قرأتها وبقي صداها في داخلي، وربما حتى من صورةٍ مرّت أمامي وعلقت في الذاكرة. الحياة مليئة بشذرات تستحق أن تُكتب.

-هل هناك شخصية من شخصياتك تشبهك أو تعبر عنك؟

نعم، شخصية “سليم” في روايتي لصوص تسرق في العلن هي الأقرب إليّ، وإن لم تكن تشبهني تمامًا. أخذ مني الكثير من ملامح الهدوء، والتأمل، والتحكّم بعقلانية حتى في أشد اللحظات توترًا. يشبهني في حبه للعزلة الهادئة، لا العزلة القاطعة، وفي طريقته في الإصغاء لما لا يُقال أكثر من الكلام الظاهر. سليم ليس أنا، لكنه يحمل صوتًا من داخلي، وربما كتبته لأفهمني أكثر، أو لأرى انعكاسي من زاوية لا أراها عادة.

-ما أقرب عمل إلى قلبك ولماذا؟

كل عمل كتبته هو جزء مني، وكل نصّ يحمل شيئًا من روحي. لا أستطيع أن أقول إن هناك عملاً أقرب من غيره، تمامًا كما لا يمكن لأب أن يفضّل أحد أولاده على الآخر. لكل عمل زمنه، وظرفه، ومشاعره الخاصة التي رافقتني أثناء الكتابة. ربما أعود لبعضها فأبتسم، أو أتألم، أو أتذكّر كيف كنت حين كتبت، لكني لا أفرّق بينها بقلب الكاتب… فكل حرف خرج من داخلي هو عزيز عليّ بطريقته.

-هل هناك عمل ندمت على كتابته أو شعرت أنه لم يُفهم بالشكل الصحيح؟

لم أندم على أي عمل كتبته. كل ما نُشر كان نابِعًا من روحي، وكُتب بصدق دون تكلّف أو تصنّع. أنا أؤمن أن الكلمة الصادقة، حتى إن لم تُفهَم من الجميع، تصل دائمًا إلى من يملك الاستعداد لقراءتها بقلب مفتوح. لذلك، لم يكن هدفي أن يُفهم كل شيء تمامًا بقدر ما كان هدفي أن أكون صادقًا مع نفسي ومع ما أكتبه.

-كيف تصف أسلوبك في الكتابة؟ وما الذي يميزك عن غيرك من الكُتاب؟

لست أنا من يحدد أسلوبي، فالحكم الحقيقي يبقى للقارئ. هو من يقرر إن كان النص يلامسه، وإن كان الأسلوب يرقى لمستوى الشعور والذائقة. ما أستطيع قوله هو أنني أكتب بصدق، وأحاول أن أكون وفيًّا لفكرتي، مهما كانت بسيطة أو معقدة. لا أسعى للتشابه، ولا أهرب من الاختلاف. ربما ما يميزني، إن وُجد ما يميز، هو أنني لا أكتب لأُبهِر، بل لأُعبّر.

-هل تتبع طقوسًا معينة أثناء الكتابة؟ (مثل وقت معين، موسيقى، مكان محدد)

أحيانًا، نعم، أكتب في أوقات هادئة، وأحيانًا أرافق الكتابة بشيء من الموسيقى الخفيفة، لكن الحقيقة أن الفكرة لا تنتظر الطقوس. هي تأتي كما تأتي الفراشات… فجأة، بخفة، وتدور حولك. إن لم تستمتع بحضورها لحظتها، تهرب منك، وربما لا تعود. لذلك، أنا أؤمن بأن على الكاتب أن يكون مستعدًا لها في أي وقت، لأن الفكرة الجميلة لا تطرق الباب مرتين.

-كيف تتعامل مع “البلوك الكتابي” عندما يصيبك؟

البلوك الكتابي أمر طبيعي، وكل كاتب يمر بفترات من الفتور، حيث يعجز القلم عن مسايرة الروح، وتبدو الكلمات بعيدة رغم اقترابها. لا أرهق نفسي حين يحدث ذلك، بل أترك المساحة للسكوت، وأعوض هذا الغياب بالقراءة. القراءة بالنسبة لي ليست فقط غذاءً للعقل، بل هي أيضًا استراحة للكاتب في داخلي، وفرصة كي أتنفّس من نوافذ الآخرين حتى يعود صوتي الخاص بشكل أكثر صفاءً.

-هل تفضل الكتابة باليد أم على الحاسوب؟ ولماذا؟

الكتابة باليد لها لذّتها الخاصة، متعة لا يمكن إنكارها. هناك شيء حميمي في ملامسة الورقة، وفي انسياب الحبر كأنه يخرج من القلب مباشرة. لكنها متعة بدأت تتراجع أمام متطلبات العصر وسرعته. ومع مرور الوقت، أصبح الحاسوب هو الأقرب، لاختصاره الكثير من الجهد، ولمساعدته على تنظيم النصوص وتحريرها بسهولة. ومع ذلك، ما زالت دفاتري القديمة تحتفظ ببدايات كثيرة، كأنها ذاكرة خاصة لا تشيخ.

-هل تفكر في القارئ أثناء الكتابة، أم تكتب لنفسك أولًا؟

في الحقيقة، أنا قارئ قبل أن أكون كاتبًا، وربما هذا ما يجعل المعادلة مختلفة بالنسبة لي. فأنا، حين أكتب، أكون في الوقت نفسه الكاتب والقارئ. أكتب لنفسي أولًا، لكن بعين القارئ الذي أود أن يصل إليه النص. لا أكتب إرضاءً للآخر، ولا تجاهلًا له، بل أوازن بين صدقي الداخلي وبين ما يستحق أن يُقرأ. فالكتابة، في جوهرها، حوارٌ خفيٌّ بين ذاتك ومن يُنصت، حتى لو لم تقل اسمه.

-كيف تتعامل مع النقد، سواء الإيجابي أو السلبي؟

أتعامل مع النقد بكل طبيعية، فهو جزء من تجربة الكتابة، بل من الحياة نفسها. النقد الإيجابي يمنحني دفعة معنوية ويشعرني بأن ما أكتبه يجد صداه في قلب الآخر، أما النقد السلبي، فأراه دافعًا من نوع آخر… دافعًا للتحدي، للتطوير، لإعادة النظر دون أن أفقد ملامحي. لا أرفض النقد لمجرد أنه لا يعجبني، بل أحاول أن أفهم ما وراءه، فإن كان موضوعيًا، استفدت منه، وإن كان جائرًا، تجاوزته دون أن أسمح له أن يطفئ شغفي.

-هل سبق وغيّرت فكرة أو نهاية بناءً على رأي القراء؟

كلا، لم أغيّر فكرة أو نهاية بناءً على رأي القرّاء. أؤمن أن لكل عمل رؤيته وبصمته التي وُلد بها، وأن الكاتب هو أول من يجب أن يكون صادقًا مع ما يكتبه حتى النهاية. أحترم آراء القرّاء كثيرًا، وأصغي لها، لكن لا أسمح لها أن تُغيّر المسار و خطة النصّ منذ بدايته.

-من هم الكُتاب الذين أثّروا فيك أو تعتبرهم قدوة؟

تأثرت بعدد كبير من الكُتاب، والاختيار صعب بسبب ثراء التجارب الأدبية حول العالم. لكن بطبيعتي، أميل إلى الأدب الغربي وأحبه كثيرًا، فهو يفتح أمامي آفاقًا مختلفة في الفكر والأسلوب. أجد في أعمال الكتّاب الغربيين تنوعًا في الرؤى وجرأة في التعبير تثير فضولي وتحفّزني على التفكير بطرق جديدة.

-هل هناك نوع أدبي تتمنى الكتابة فيه ولم تخض التجربة بعد؟

نعم، هناك نوع أدبي لطالما تمنيت أن أخوض غماره، وهو كتابة الخيال، وبشكل خاص التاريخي والأساطير الإغريقية. هذه العوالم الساحرة تحمل بين طياتها قصصًا تتجاوز الزمن، وتطرح أسئلة إنسانية عميقة عبر رموز وأساطير تحمل عبرةً خالدة. أتطلع إلى أن أكتب فيها يومًا ما، لأخلق عوالم تتنفس بين صفحات التاريخ والأسطورة، وأشارك القارئ رحلة فريدة بين الواقع والخيال.

-ما الذي تقرأه حاليًا؟

في الوقت الحالي، أنا غارق في الكتابة، ولذلك لم أعد أقرأ كما كنت. أحيانًا، تحتاج الكتابة إلى صمتٍ تام من كل صوت آخر، حتى من صوت الكتب. لكن قبل أن أبدأ هذا الانشغال الكامل، كنت أقرأ سلسلة قواعد جارتين، وهي من الأعمال التي أثارت اهتمامي لما فيها من عوالم متخيلة وأفكار جريئة. القراءة دائمًا كانت تمهيدًا للكتابة، لكن الآن… أعيش مرحلة الإصغاء لما بداخلي أكثر.

-ما النصيحة التي تعطيها لأي شخص يريد أن يصبح كاتبًا؟

أن يكتب بصدق… لا ليُرضي الآخرين، بل ليكون صادقًا مع نفسه أولًا. أن يتحلّى بالصبر، فالكلمات لا تُقطف كالثمار الناضجة دائمًا، بل تحتاج إلى وقتٍ لتنضج في الروح قبل الورق. أن يقرأ كثيرًا، ويستمع أكثر، ويعيش الحياة بكل تناقضاتها، لأن الكاتب الحقيقي لا يكتب من فراغ، بل من تجربة، من وجع، من دهشة، ومن حبّ. وأهم ما أنصح به: لا تكتب لتكون كاتبًا… اكتب لأنك لا تستطيع أن تكون شيئًا آخر دون الكتابة

-في كلمة واحدة، ماذا تعني لك الكتابة؟

النجاة؛ هي المركب الذي ألوذ به حين تضطرب أمواج الحياة، والنافذة التي أتنفّس منها بصمت، حين يعجز الصوت عن التعبير.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *